ونرد عَلَى هَؤُلاءِ جميعاً وهذا هو الذي يهمنا بأن أكمل النَّاس توحيداً هم الخليلان كما قال الإمام مالك: مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإبراهيم عَلَيْهِ السَّلام هما أكمل النَّاس توحيداً، فليس هناك رقي ولا ترقي في التوحيد بحيث يكون الإِنسَان أعظم من مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام، ومع ذلك: فإن دين الخليل ودين مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو إفراد الله بالعبادة، أي توحيد الألوهية وهو عبادته تَعَالَى إِلَى أن يأتي الموت كما قال تعالى: ((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ))[الحجر:99] أي: لا تنفك عن عبادته تَعَالَى إِلَى أن يدركك الموت، فما دمت عبداً حياً فوصف العبودية لا ينفك عنك مطلقاً،
أما ما يقال من الحقيقة والفناء أو من الشهود، فهذه مصطلحات بدعية شركية لم يعرفها الخليلان ولم يعرفها أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بعده، ولم يعرفها أولوا العزم من الرسل، وإنما هذه بدع وضلالات ابتدعها هَؤُلاءِ القوم وأدخلوها في دين الإسلام، فهل كَانَ فيما حققوه أنهم جعلوا التوحيد ثلاثة أقسام، توحيد العامة، وتوحيد الخاصة، ثُمَّ توحيد خاصة الخاصة؟
بل وإنما كانت الدعوة إِلَى عبادة الله، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعبد الله أمام أصحابه، وكان أصحابه يقتدون به في عبادته، وهكذا كَانَ الأَنْبِيَاء من قبل ولم يكن أحد منهم أبداً عَلَى هذا التوحيد الذي هو مجرد ذكر أو ترانيم، توصل صاحبها إِلَى ما يسمى بالفناء المزعوم، قال تعالى:((وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ *
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) [البقرة:130-131] وفي الحديث الذي أخرجه
الدارمي و
ابن السني أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يعلم أصحابه ويقول:
{أصبحنا عَلَى فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وملة إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كَانَ من الْمُشْرِكِينَ} ويستدل المُصنِّف بمعناه، ومعناه صحيح من حيث إن ملة إبراهيم هي دين مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا شك في ذلك وهي كلمة التوحيد التي جعلها إبراهيم في عقبه كما قال تعالى:
((وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ))[الزخرف:28] وهي الشهادة شهادة أن لا إله إلا الله كلمة التوحيد فبين المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ أن هَؤُلاءِ
الصوفية ومن ادَّعى هذه الدعوى قد افتروا عَلَى الله الكذب حين قسموا التوحيد إِلَى هذه الأنواع الثلاثة،
وأما القسمة الصحيحة الحقيقية للتوحيد فهي أن نقول: إنه توحيدان توحيد خبري علمي اعتقادي، الذي هو توحيد المعرفة أي توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد عملي طلبي إرادي وهو توحيد الألوهية، أي: توحيد العبادة، وأيضاً قلنا: إن المُصنِّف قال إن هناك توحيدان -أي باعتبار آخر- توحيد المرسِل، وهو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتوحيد المرسَل أي: متابعة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنوحد الله تَعَالَى بالطاعة والعبادة بأن نعبده وحده، ونوحد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاقتداء فلا نقتدي بأحد غيره.